مراتب الجنة
❖ مراتب الجنة… بين الأبرار والمقربين ❖
قال الله تعالى:
﴿انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ۚ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا﴾ [الإسراء: 21]
في هذه الدنيا نرى التفاوت بأمّ أعيننا: أبٌ فقير يشقى ليل نهار، يكدّ في عمله ليعود لأطفاله بلقمة خبز، بينما نسمع عن ملياردير ينفق مئتي مليون، بل وربما خمسمئة مليون دولار، على حفل زفاف ابنته. هذا التفاوت في الدنيا ليس غريبًا، فقد شاء الله أن يكون للحياة مراتب وابتلاءات. لكن الله جل وعلا يذكّرنا أن التفاوت الأعظم ليس هنا، بل هناك:
﴿وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا
إنما يُميّز القرآن الكريم أنه لم يذكر الجنة بشكل مبهم أو عام،
بل ساق أوصافًا دقيقة، كل تفصيل فيها له معنى ودلالة، وكل لمحة تُظهر عظمة النعيم وعدل التفاوت بين أهله.
ومن أروع تلك اللمحات ما جاء في أنواع الشراب الذي يسقى به الأبرار والمقربون وعباد الله، وهي درجات من درجات الجنة العُليا.
⸻
🔹 الأبرار و المقربون
قال تعالى:
﴿يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ * وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ﴾
(المطففين: 25–28)
الأبرار يُسقَون من رحيق مختوم، شراب صافٍ مختوم بالمسك.
لكن ليزداد شرفًا وطيبًا، يمزج بقطرات من عين عالية مباركة اسمها تسنيم.
أما المقربون — وهم في مرتبة أعلى —فيشربون من تسنيم مباشرة بلا مزج ولا تخفيف، ويفجرونها حيث شاءوا.
⸻
🔹الابرار و عباد الله:
قال تعالى:
﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا﴾
(الإنسان: 5–6)
وهنا إشارة أخرى إلى مشروب الأبرار:
• فهم يشربون من كأس ممزوجة بقطرات من كافور.
• أما عباد الله — وهم في مرتبة أعلى — فيشربون من عين الكافور نفسها مباشرة بلا مزج ولا تخفيف ، ويفجرونها حيث شاءوا.
⸻
🔹 دلالة هذه الإشارات
نلاحظ إذن أن:
• الأبرار: يشربون رحيقًا مختومًا ممزوجًا بقطرات من تسنيم، أو بكؤوس شراب ممزوجة بكافور.
• المقربون: ينالون شرف الشرب من عين تسنيم مباشرة بلا مزج، ويفجرونها حيث شاءوا.
• عباد الله: يشربون من عين كافور مباشره، ويفجرونها حيث شاءوا.
انظروا الي عظيم الفرق في فقط نوع واحد من انواع الشراب بين دراجات الجنه العليا
فما بالنا بالفروق في طعامهم و قصورهم وحليهم و حدائقهم و أزواجهم !!
🔹 إشارة إلى عدل الله في مراتب الجنة
ولذلك، ورد في الأثر أن أهل الجنة لا يتحسرون إلا على ساعة لم يذكروا فيها الله، لأنهم يرون أن كل حسنة تصنع فرقًا في مراتب الجنة، وبين المرتبة والمرتبة كما بين السماء والأرض.
﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ (الأنعام: 132)
• أهل الدرجات العُليا يستطيعون النزول إلى الدرجات الدنيا وملاقاة إخوانهم.
• أما أهل الدرجات الدنيا فلا يستطيعون الصعود إلى مراتب العُليا، حتى لا يطلبوا مثل ما عند اهل الدرجات العليا فيختلّ ميزان العدل الإلهي القائم على قوله تعالى:
﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى﴾ (النجم: 39–41)
لكن رحمة الله واسعة، فجعل أماكن عامة يلتقي فيها أهل الدرجات العليا مع أهل الدرجات الدنيا.
فإذا التقى رجل من أهل الدرجات الدنيا بصديقه من أهل الدرجات العليا، رآه في ملابس جميلة، وعلى يده أساور وجواهر لم ير مثلها من قبل، فيتمنى مثلها، فيُعطاها.
غير أنه لا يرى قصره، ولا طعامه، ولا شرابه، ولا أشجاره، ولا جواريه.
وهكذا يبقى هناك مجال للقاء والاستمتاع، دون أن تزول خصوصية الدرجات أو يضيع ميزان العدل الإلهي.
إن إشارات القرآن إلى شراب الأبرار والمقربين، ثم بيان الفروق بين مراتب الجنة، ليست مجرد أوصاف لنعيم، بل هي دعوة للتسابق في الطاعات، فكل ساعة يملؤها ذكر أو عمل صالح قد تصنع فرقًا بمدى السماء والأرض في الجنة.
﴿وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾.
ومع الأسف، نسمع كثيرًا من الناس يقول:
“أنا لا أريد إلا أن أدخل عتبة الجنة.”
وطموحه فقط العتبة!
وهذا في حقيقته استهتار بما عند الله، وقد قال رسول الله ﷺ:
«إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى».
والفردوس الأعلى هو وسط الجنة، وليس أعلى الدرجات، لكنه مرتبة عظيمة.
فكيف يرضى أحدنا أن يطلب فقط عتبة الجنة، وكأن نعيمها درجاته كلها سواء؟
إن الجنة مراتب، والفارق بين أدناها وأعلاها كما بين السماء والأرض.
فمن الاستهانة أن نطلب عتبة الباب فقط، بينما ربّنا الكريم يدعونا لننافس في الأعلى.
الويل كل الويل لمن جعل الدنيا دار شهوته، و نسيَ الجنة و نعيمها
وآثر الفاني على الباقي،
﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾
﴿إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾
فلْيكن دعاؤنا دائمًا:
اللهم وفقنا لعمل صالح يجمعنا بآبائنا وأجدادنا في الدرجات العليا من الجنة، آمين يا رب العالمين.
تحياتي
إبراهيم فرج
تعليقات
إرسال تعليق