بقلم أ / حسن عدنان المرعي

الحديث الثامن عشر
عَنْ ( أَبِيْ ذَرٍّ جُنْدُبِ بنِ جُنَادَةَ ) ، ( وَأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُعَاذِ بِنِ جَبَلٍ ) رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ". رواه الترمذي، وقال: (حديث حسن)، وفي بعض النسخ: (حسن صحيح).
الشرح:
قوله: "اتق الله حيثما كنت" هذا أمر بالتقوى في أي زمان كنت، وفي أي مكان كنت؛ لأن كلمة "حيث" قد تتوجه إلى الأمكنة، وقد تتوجه إلى الأزمنة، يعني: قد تكون ظرف مكان، وقد تكون ظرف زمان، وهي هنا محتملة للأمرين، "اتق الله حيثما كنت" يعني: اتق الله في أي مكان أو في أي زمان كنت.
والأمر بتقوى الله جل جلاله هنا على الوجوب؛ لأن التقوى أصل عظيم من أصول الدين، وقد أمر الله جل جلاله نبيه صلى الله عليه وسلم بالتقوى، فقال عز وجل: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ ) (الأحزاب: 1)، وأمر المؤمنين بأن يتقوا الله حق تقاته، فقال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ) (آل عمران: 102)، وأمرهم بتقوى الله بعامة، فقال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا ) (الأحزاب: 70)، وقال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ ) (الحشر: 18) وأشباه ذلك، وتقوى الله جل جلاله جاءت في القرآن في مواضع كثيرة.
وأتت التقوى في مواضع أُخر بتقوى عذاب الله عز وجل، وباتقاء النار، واتقاء يوم القيامة، كما قال عز وجل: ( وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ) (البقرة: 281)، وقال: ( وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدِّتْ لِلْكَافِرِينَ ) (آل عمران: 131)، وهكذا في آيات أُخر.
فهذان إذاً نوعان، فإذا توجهت التقوى، وصارَ مفعولُها لفظَ الجلالةِ، كما في قوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ ) فمعنى تقوى الله جل جلاله هنا: أن تجعل بينك وبين عذاب الله وسخطه وأليم عقابه في الدنيا وفي الآخرة وقاية تقيك منه، وهذه الوقاية بالتوحيد ونبذ الشرك، وهذه هي التقوى التي أُمر الناس جميعا بها؛ لأن تقوى الله من معناها راجعة إلى المعنى اللغوي، وهي أن التقوى أصلها (وَقْوَى) فالتاء فيها منقلبة عن واو، وهي من الوقاية، وقاه، يقيه، وقاية، فتقول: اتقيت الشيء بالشيء إذا جعلت بينك وبينه وقاية، والعرب تعرف ذلك، كما قال الشاعر:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه
فتناولته واتقتنا باليد
والنصيف ما يُجعل على الوجه، فسقط عنها ومن عفافها أنها لم ترد إسقاطه، قال: فتناولته –يعني: بإحدى اليدين –واتقتنا باليد، يعني: باليد الأخرى. فالمتقي هو من جعل بينه وبين ما يكره وقاية، فيجعل العبد بينه وبين سخط الله وعذابه وأليم عقابه وقاية.
والأمر بتقوى الله جاء في القرآن على ثلاث مراتب:
المرتبة الأولى: تقوى أُمر بها الناس جميعاً، كما في قوله سبحانه وتعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ) (النساء: 1) وهذا معناه أن يسلموا، بأن يحققوا التوحيد، ويتبرؤوا من الشرك، فمن أتى بالتوحيد، وسلم من الشرك فقد اتقى الله جل جلاله أعظم أنواع التقوى، ولهذا قال جماعة من المفسرين في قوله جل جلاله: ( إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ) (المائدة: 27) يعني: من الموحدين.
المرتبة الثانية: تقوى أُمر بها المؤمنون، فقال عز وجل: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ ) وهذه التقوى للمؤمن تكون بعد تحصيله التوحيد وترك الشرك، فتكون التقوى في حقه أن يعمل بطاعة الله على نور من الله، وأن يترك معصية الله على نور من الله عز وجل، وأن يترك المحرمات، ويمتثل الواجبات، وأن يبتعد عما فيه سخط الله جل جلاله والتعرض لعذابه.
وهذه التقوى للمؤمنين أيضاً على مراتب أعلاها: أن يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً لما به البأس"، وهذا في أعلى مراتب التقوى، لأنه اتقى ما لا ينفعه في الآخرة، وهذه مرتبة أهل الزهد والورع والصلاح.
المرتبة الثالثة: تقوى أُمر بها من هو آت بها، وذلك قول الله جل جلاله: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ ) (الأحزاب: 1) ومن أُمر بشيء هو محصله، فإن معنى الأمر أن يثبت عليه، وعلى دواعيه، فمعنى قول الله عز وجل: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ ) يعني: اثْبُتْ على مقتضيات التقوى ( وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ) ومن ذلك قوله عز وجل: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ ) (النساء: 136)، فناداهم باسم الإيمان، ثم أمرهم بالإيمان، وهذا معناه أن يثبتوا على كمال الإيمان، أو أن يكملوا مقامات الإيمان بحسب الحال؛ لأن الإيمان له درجات.
فقول النبي صلى الله عليه وسلم هنا: "اتق الله حيثما كنت" هذا خطاب موجه لأهل الإيمان، يعني لأهل النوع الثاني، فالمقصود منه أن يأتي بتقوى الله جل جلاله في أي مكان، أو زمان كان، وذلك بأن يعمل الطاعات، ويجتنب المحرمات، كما قال طلق بن حبيب رحمه الله: "تقوى الله: أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخشى عقاب الله".
وسأل رجل أبا هريرة رضي الله عنه عن التقوى، فقال له: هل أخذت طريقاً ذا شوك؟ قال: نعم، قال: فكيف صنعت؟ قال: إذا رأيت الشوك عدلت عنه، أو جاوزته، أو قصرت عنه، قال: ذاك التقوى. وروي نحو ذلك أيضاً عن كعب الأحبار لما سأله عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن التقوى.
وقد نظمها ابن المعتز الشاعر المعروف بقوله:
خل الذنوب صغيرها
وكبيرها فهو التقى

واصنع كماش فوق أر
ض الشوك يحذر ما يرى

لا تحقرن صغيرة
إن الجبال من الحصى
وهذا بعامة يخاطب به أهل الإيمان.
فإذاً تقوى الله جل جلاله أن تخاف من أثر معصية الله عز وجل، وأن تخاف من الله جل جلاله فيما تأتي، وفيما تذر، وهي في كل مقام بحسبه، ففي وقت الصلاة تخاطب بالتقوى، وفي وقت الزكاة تخاطب بالتقوى، وفي وقت الإتيان بسنة تخاطب بالتقوى، وفي وقت المخاطبة بواجب تخاطب بالتقوى، وإذا عرض عليك مُحرَّم من النساء أو المال، أو الخمور، أو ما أشبه ذلك من الأنواع، أو محرمات اللسان، أو أفعال القلوب من العجب والكبر، أو الازدراء وسوء الظن..... إلى آخره، في كل مقام يأتيك هناك تقوى تخصه.
فالتقوى تتعلق بالأزمنة والأمكنة؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "اتق الله حيثما كنت"؛ لأنه ما من مكان تكون فيه أو زمان تكون فيه إلا وثم أمر أو نهي من الله جل جلاله يتوجه للعبد.
والوصية بالتقوى هي أعظم الوصايا، قال سبحانه وتعالى: ( وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ ) (النساء: 131)، وكان الصحابة -رضوان الله عليهم- كثيرا ما يوصي بعضهم بعضاً بتقوى الله، فهم يعلمون معنى هذه الوصية العظيمة.
قال صلى الله عليه وسلم: "وأتبع السيئة الحسنة تمحها"، (أتبع) فعل والفاعل أنت، والسيئة هي المتبوعة، والحسنة هي التابعة، يعني: اجعل الحسنة بعد السيئة، أي: إذا عملت سيئة فأتبعها بحسنة؛ فإن الحسنات يذهبن السيئات، كما قال عز وجل: ( وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيْ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ) (هود: 114)، وفي صحيح البخاري وغيره أن رجلاً أصاب من امرأة قُبلة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: ( وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيْ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ) فقال الرجل: يا رسول الله ألي هذا؟ قال: "لجميع أمتي كلهم".
وجاء في الحديث الصحيح أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أصبت حداً فأقم في كتاب الله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أليس قد صليت معنا"، قال: نعم، قال: "فإن الله قد غفر لك ذنبك -أو قال- حدك"، وهذا يدل على أن المؤمن يجب عليه أن يستغفر من السيئات، وأن يسعى في زوالها، وذلك بأن يأتي بالحسنات، فالإتيان بالحسنات يمحو الله جل جلاله به أنواع السيئات، وكل سيئة لها ما يقابلها، فليس كل سيئة تمحوها أي حسنة، فإذا عظمت السيئة وكبرت فلا يمحوها إلا الحسنات العظام؛ لأن كل سيئة لها ما يقابلها من الحسنات، ولهذا جاء أن الرجل إذا غلط أو جرى على لسانه كلمة فيها شرك، فحلف بالكعبة، أو أقسم بغير الله، أو الحلف بالآباء وأشباه ذلك، فإن كفارة ذلك أن يقول: لا إله إلا الله؛ لأن ذلك شرك، وكفارة الشرك أن يأتي بالتوحيد، وكلمة لا إله إلا الله هي من الحسنات العظام.
فالسيئات لها حسنات يمحو الله جل جلاله بها السيئات، وهذا يدل على أن السيئة تمحى، ولا تدخل في الموازنة، وظاهر الحديث أن هذا فيمن أتبعها، يعني: أنه إذا أتى بسيئة أتبعها بحسنة بقصد أن يمحو الله جل جلاله عنه السيئات؛ لأنه قال: "وأتبع السيئة الحسنة تمحها"، فإذا فعل سيئة سعى في حسنة لكي تمُحى عنه تلك السيئة.
وعموم قوله سبحانه وتعالى: ( وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيْ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ) يدل على أن يتبعها قاصداً، وحديث ابن مسعود الذي سبق يدل على عدم اعتبار القصد، فهل هذا في كل الأعمال، أم أنه يحتاج إلى أن يتبع السيئة الحسنة حتى يمحوها الله جل جلاله عنه بقصد الإتباع؟ هذا ظاهر في أثره، فأعظم ما يمحو الله جل جلاله به السيئات أن يأتي بالحسنة بقصد التكفير، فهذا يمحو الله جل جلاله به الخطيئة؛ لأنه جمع بين الفعل والنية، والنية فيها التوبة والندم على تلك السيئة، والرغبة إلى الله جل جلاله في أن يمحوها الله، عز وجل عنه، فهي مرتبتان إذاً:
المرتبة الأولى: أن يقصد إذهاب السيئة بالحسنة التي يعملها، فيتبرأ بقلبه من هذا الذنب، ويرغب في ذهابه، ويتقرب إلى الله جل جلاله بالحسنات حتى يرضى الله جل جلاله عنه، ففي القلب أنواع من العبوديات ساقته إلى أن يعمل بالحسنة؛ ليمحو الله جل جلاله عنه بفعله الحسنة ما فعله من السيئة.
والمرتبة الثانية: أن يعمل بالخير مطلقاً، والحسنات يذهبن السيئات بعامة، كل حسنة بما يقابلها من السيئة، فالله جل جلاله ذو الفضل العظيم.
إذا تقرر ذلك فالحسنة المقصود بها الحسنة في الشرع، والسيئة هي السيئة في الشرع، والحسنة في الشرع ما يثاب عليه، والسيئة في الشرع ما ورد الدليل بأنه يعاقب عليه، فالسيئات هي المحرمات من الصغائر والكبائر، والحسنات هي الطاعات من النوافل والواجبات.
قال صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: "وخالق الناس بخلق حسن" والناس هنا يراد بهم المؤمنون، ومن جماع الخُلق الحسن أن يحسن إليهم، ويراد بهم أيضا غير المؤمنين في معاملتهم بالعدل، والخُلق الحسن يشمل ما يجب على المرء من أنواع التعامل بالعدل لأهل العدل، والإحسان لمن له حق الإحسان.
والخلق الحسن فسر بتفسيرات، منها:
الأول: أنه بذل الندى وكف الأذى، يعني: أن تبذل الخير للناس، وأن تكف أذاك عنهم.
الثاني: أن يحسن للناس بأنواع الإحسان، ولو أساؤوا إليه.
وقد جاء الأمر بمخالقة الناس بالخلق الحسن، والحث على ذلك، وبيان فضيلته في أحاديث كثيرة، ومما جاء في بيان فضيلته قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا"، وقوله: "إن من خياركم أحسنكم أخلاقا"، وقوله: "إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم"، يعني: المتنفل بالصيام، والمتنفل بالقيام، فحسن الخلق الذي يبذله دائماً طاعة من طاعات الله عز وجل، فإذا كان دائم إحسان الأخلاق على هذا النحو، فإنه يكون في عبادة دائمة، إذا فعل ذلك طاعة لله عز وجل.
وحسن الخلق تارة يكون طبعاً، وتارة يكون حملاً، يعني: طاعة لله جل جلاله لا طبعاً في المرء، وما كان من حسن الخلق على امتثال الطاعة، وإلزام النفس بذلك، فهو أعظم أجراً ممن يفعله على وفق الطبيعة، يعني: لا يتكلف فيه؛ لأن القاعدة المقررة عند العلماء: أن المسألة إذا أمر بها في الشرع، فإذا امتثلها اثنان، فمن كان أكلف في امتثال ما أمر به كان أعظم أجرا في الإتيان بالواجبات، كما ثبت في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها: "ولكنها على قدر نفقتك أو نَصَبِك"، وهذا مشروط بشرطين:
الأول: أن يكون من الواجبات.
الثاني: أن يكون مما توجه الأمر للعبد به، فيكون أجره على قدر مشقته في امتثال الأمر.
أما النوافل فلا تدخل في هذا، لحديث: "الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران".

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل تجب مضمضة الفم لو اكلت قبل الصلاة... الإفتاء تجيب

بقلم الشاعر @ رمضان شحاتة @ (( قصيدة يتيم قريش الذي ساد ))

✍ بحبك يارب 💚